Abstract:
ما من صورة من صور الأدب تعمر كالشعر، وليس منها ما توازي انعكاسه على الحياة داخل البيئة التي يولد فيها هذا الضربُ من الأدب.
عرفت الأمةُ العربية الشعرَ، من عهدِ مهلهلها ومرقّشها، وقبل أن يولد المسيح عليه السلام المؤرخ بمولده المصادر والمراجع التاريخية والأدبية، وأغلب الظن أن عهد الشعر كان أبعد من ذلك، أو كما قال أبو عمرو بن العلاء" ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقلّه، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير"، حتى إن بعض الكتّاب كانوا في شكٍ من تاريخ الشعر وتأريخه، لكن الذي أجمع عليه الأولون والآخرون، هو أن عهد الشعر أبعد من تأريخ شعر أمرئ القيس بن حجر ببكاء ابن حذام ، فطريقة عن (ظهر قلب) التي انتهجها العرب في حفظ الشعر لأُميتهم، كانت وراء ضياع كثير من شعر الأولين، وقليل من شعر الآخرين، وهذا ينطبق على الشعرين العربي القديم والشعر الشعبي في ليبيا.
فالشعر ظهر يقتفي خطوات الحياة، وئيداً كبساطة الإبداع الموكل إليه في ذلك العصر،  يحاسبه على محسوسه، لا يُطلب منه أبعد من التغزّل بمكذوب الشعر، ثم تطور بتطوره، بل أسهم في هذا التطور، ولعل مجلس النابغة الذبياني في سوق عكاظ، وجلوس الشعراء إليه، واحتكامهم لديه، صورة من صور اهتماهم بالشعر والشعراء.
     	 وبعد أن بسط الإسلام ظِلّه على أرض الحجاز، قدّر الشعر بعد أن وضع له قواعد تأديبية، فقد عَلِمنا أن الفاروق رضوان الله عليه قد أثنى على زهير بن أبي سُلمى واعتبره أشعر الناس ، لأنه "لا يتبع  حوشي الكلام  ولا يعاظل في المنطق ولا يقول إلا ما يعرف ولا يمتدح أحداً إلا بما فيه"، كما روي عن ابن عباس رضوان الله عليهما اهتمامه بالشعر والشعراء والموازنة بينهم .
    	كانت تلك حقبة تاريخيّة غلبت عليها البدائية، فكان الشعر على قوة بنيانه، ذا صور متشابهة وتشابيه متكررة، فالحياة في البادية لا تكاد تسعف الذهن إلا بما هو محسوس، حتى إذا ازدهــــــرت الحياة الإسلامية انطلق اللسان العربي أقوى صنعة من ذي قبل، مع ما تركه الأولون من فطرة.
وعندما ارتاح الناس وتغيّرت أحوالهم، اختلطت فصاحة الأعراب برقة أبناء الريف مع تمدن وسّع آفاق الحضر، وانتشرت مجالس الإبداع وغنّى أصحاب الحناجر الرقيقة أشعاراً اهتزّ لها الندماء طرباً،  حتى وصل ذروته في عهد دولة بني أمية، أهل الأدب وأعرف الناس به، ولا غرابة في أن تكون قريش مالكة الفصاحة والبلاغة  في ذلك العصر، وهم رهط النبي (صلى الله عليه وسلم) .